موضوع: مفهوم المفاضلة وفقه الأولويات الجمعة فبراير 10, 2012 11:11 pm
مفهوم المفاضلة وفقه الأولويات د.صبري محمد خليل /جامعه الخرطوم sabri.khalil30@yahoo.com تعريف المفهوم : أسس الفكر القانوني الاسلامى، بقطاعيه الاصولى " علم اصول الفقه" والفقهي" علم الفقه" ، قديما وحديثا ، لمفهوم المفاضلة ، و الذى يمكن تعريف بأنه : الجمع بين الأفعال(انماط السلوك) "بما هي وسائل لغايات (مقاصد) شرعيه معينه في مجال معين" ،على وجه يرفع التعارض(التناقض) بينها،من خلال التقديم والتأخير (الزمانى والقيمى)، وطبقا لضوابط موضوعيه مطلقه " مصدرها النصوص يقينية الورود قطعيه الدلالة"،بهدف جلب المنافع ودفع المفاسد ما أمكن. الضابط المنهجي للتعريف: وطبقا لهذا التعريف فان هذا المفهوم هو درجه من درجات الجمع بين المتعارضات(المتناقضات)، فهو موقف قائم منهجيا على رفض الوقوف إلي أحد النقيضين، ومحاوله إلغاء التناقض بينها،بان يؤلف(يجمع) بينها،وهو ما عبر عنه القران بمصطلحات كالوسطية والقوامة:"وكذلك جعلناكم أمة وسطاً". "والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكانوا بين ذلك قواماً". فهذا المفهوم إذا يتميز – ولا يتناقض - عن درجه أخرى من درجات الجمع بين المتعارضات، هي التسوية والتي تقوم على التأكيد على القيمة المتساوية لكل المتعارضات، فتجعل العلاقة بينها علاقة تأثير متبادل، ولا تؤكد على متعارض لتلغى أخر،وفى حاله قولها باولويه متعارض على آخر ، فإنها تقصد بالاولويه اولويه ترتيب زمانى لا اولويه تفضيل قيمى ، فكلا الدرجتين من درجات الجمع بين المتعارضات تحاول ان تجعل العلاقة بين المتعارضات علاقة توازن. لكن من زوايه أخرى فان مفهوم المفاضلة كدرجه من درجات الجمع بين المتعارضات يتناقض مع الإفراد: اى الوقوف إلى احد النقيضين، اى التطرف في التأكيد على فعل(نمط سلوك) معين لدرجه إلغاء الأفعال الأخرى ، وبالتالي يجعل العلاقة بينها علاقة اختلال.ومرجع ذلك أنها تحول هذا الفعل او ذاك إلى مطلق اى كل قائم بذاته ومستقل عن غيره . التعدد الاصطلاحي للمفهوم: وقد استخدم الفكر القانوني الاسلامى ذات المصطلح" المفاضلة او التفاضل" للتعبير عن المفهوم، كما في تبويب الإمام النووي لجمله من الأحاديث ، التي رواها مسلم في صحيحة، تحت عنوان (باب بيان تفاضل الإسلام، أي اى أموره أفضل)، كما استخدم مصطلحات أخرى كمصطلح الموازنة كما في قول ابن تيمية(وإلا فمن لم يوازن ما في الفعل والترك من المصلحة الشرعية والمفسدة الشرعية فقد يدع واجبات ويفعل محرمات)( الفتاوى 10/512). او مصطلح البداءه كما في قول الحافظ في الفتح 3/358: (ووقعت البداءة بهما (أي بالشهادتين) لأنهما أصل الدين الذي لا يصح شيء غيرهما إلا بهما). كما تناول الفكر القانوني الاسلامى المفهوم تحت عناوين كفقه مراتب الإعمال الذى عرفه الباحثين بأنه( العلم بفاضل الأعمال ومفضولها، وأرجحها ومرجوحها)( د. سعد الدين العثماني / فقه مراتب الأعمال)، او فقه الأولويات والذي عرفه الباحثون بأنه (العلم بالأحكام الشرعية التي لها الحق في التقدم على غيرها بناء على العلم بمراتبها، وبحسب الواقع الذي يتطلبها)( أبو أويس الإدريسي / فقه الأولويات حقيقة شرعية، وضرورة تربوية. ( أدله المفهوم: وقد أشارت الكثير من النصوص إلى مفهوم المفاضلة كقوله تعالى(أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ)(التوبة: 19( . وقوله صلى الله عليه وسلم(الْإِيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ أَوْ بِضْعٌ وَسِتُّونَ شُعْبَةً فَأَفْضَلُهَا قَوْلُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَدْنَاهَا إِمَاطَةُ الْأَذَى عَنْ الطَّرِيقِ وَالْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنْ الْإِيمَانِ)(مسلم).كما أشار إليه العلماء، يقول ابن تيمية ( وتمام الورع أن يعلم الإنسان خير الخيرين وشر الشرين.. وإلا فمن لم يوازن ما في الفعل والترك من المصلحة الشرعية والمفسدة الشرعية فقد يدع واجبات ويفعل محرمات)( الفتاوى 10/512( ،ويقول أيضا (ينظر في الراجح منهما فيعمل به، فقد تترجح الحسنة على السيئة فتعمل، وقد تترجح السيئة على الحسنة من حيث فعلها فتعمل، وهذا كله إذا كان يلزم من فعل الحسنة الوقوع في السيئة أو يلزم من ترك السيئة ترك الحسنة(الفتاوي).ويقول ابن القيم (فإن نجا – أي: العبد – منها – أي : من عقبات الشيطان - بفقه في الأعمال ومراتبها عند الله ومنازلها في الفضل، ومعرفة مقاديرها، والتمييز بين عاليها وسافلها، ومفضولها وفاضلها ،ورئيسها ومرؤوسها، وسيدها ومسودها، فإن في الأعمال والأقوال سيدا ومسودا ورئيسا ومرؤوسا وذروة وما دونها) (مدارج السالكين1/225). ويقول الغزالي )وترك الترتيب بين الخيرات من جملة الشرور( (الإحياء 3/403.)..وينقل الزركشي عن ابن دقيق العيد قوله)من القواعد الكلية أن تدرأ أعظم المفسدتين باحتمال أيسرهما إذا تعين وقوع إحداهما ....وأن يحصل أعظم المصلحتين بترك أخفهما إذا تعين عدم إحداهما) (النثور في القواعد للزركشي 1/348). ويقول الآلوسي في تفسير الايه(يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ"(وهذه الثلاثة متفاوتة الرتب ، فرتب سبحانه وتعالى ذلك مقدما الأهم فالأهم والألزم فالألزم) (روح المعاني 1/119). انماط المفهوم: ولمفهوم المفاضلة انماط متعددة منها: المفاضلة بين أحكام الشرع: اى ترتيب الإحكام الشرعية طبقا لتقسيم العلماء لها إلى: واجب، ومندوب، ومحرم، ومكروه، ومباح،يقول الشاطبي (الواجبات لا تستقر واجبات إلا إذا لم يُسوّ بينها وبين غيرها من الأحكام، فلا تُترك ولا يُسامح في تركها البتة، كما أن المحرمات لا تستقر كذلك إلا إذا لم يسوّ بينها وبين غيرها من الأحكام فلا تفعل، ولا يسامح في فعلها). المفاضلة بين المصالح الشرعية: اى ترتيب المصالح الشرعية حسب تقسيم العلماء لها إلى: ضروريات، وحاجيات، وتحسينيات، يقول الشاطبي: (ليست كالأوامر الشرعية المتعلقة بالأمور الحاجية ولا التحسينية، ولا الأمور المكملة للضروريات كالضروريات أنفسها، بل بينهما تفاوت معلوم، بل الضروريات ليست في الطلب على وزن واحد، كالطلب المتعلق بأصل الدين ليست في التأكيد كالنفس، ولا النفس كالعقل إلى سائر أصناف الضروريات، والحاجيات كذلك). ومن القواعد المتصلة بالمفاضلة بين المصالح ،والتي أشار إليها الأصوليون: تقديم المصلحة الشرعية على المصلحة الملغاة، وتقديم المصلحة المتيقنة على المصلحة المظنونة، وتقديم المصلحة الكبرى على المصلحة الصغرى، وتقديم مصلحة الكثرة على مصلحة القلة،وتقديم المصلحة العامة على الخاصة،وتقديم المصلحة الدائمة على العارضة أو المنقطعة،وتقديم المصلحة المستقبلية القوية على المصلحة الآنية الضعيفة،وتقديم المصلحة الحقيقية على المصلحة الموهومة،وتقديم المصلحة المعلومة على المصلحة المجهولة. المفاضلة بين المصالح والمفاسد: اى تقديم فعل المصلحة او ترك المفسدة الأهم بقول العيني (قال النووي: فيه أنه إذا تعارضت مصلحة ومفسدة وتعذر الجمع بين فعل المصلحة وترك المفسدة بدء بالأهم لأن النبي عليه الصلاة والسلام أخبر أن رد الكعبة إلى قواعد إبراهيم عليه السلام مصلحة ولكن يعارضه مفسدة أعظم منه وهي خوف فتنة بعض من أسلم قريبا(.(عمدة القارى (2/204. المفاضلة بين الأصل و الفرع: اى تقديم الأصل على الفرع ، ودليله قول الرسول صلى الله عليه وسلم لمعاذ رضي الله عنه (إنك ستأتي قوما أهل كتاب، فإذا جئتهم فكن أول ما تدعوهم إليه: أن يشهدوا ألا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله.). يقول الحافظ (ووقعت البداءة بهما (أي بالشهادتين) لأنهما أصل الدين الذي لا يصح شيء غيرهما إلا بهما)( الفتح 3/358: ). المفاضلة بين فرض العين وفرض الكفاية : اى تقديم فرض العين على فرض الكفاية، ودليله ما ورد في الصحيحين من حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: )جاء رجل إلى النبي عليه الصلاة والسلام فاستأذنه في الجهاد فقال له: "أحيٌّ والداك"، قال نعم، قال: "ففيهما فجاهد" . يقول الحافظ (فدُل على ما هو أفضل منه في حقه) ( الفتح 6/140). قواعد تطبيقيه للمفهوم :وتطبيقا لمفهوم المفاضلة وضع الأصوليون عددا من القواعد الاصوليه منها: التيسير أولى من التعسير،والسعة أولى من الضيق،والمتعدي مقدم على القاصر. والإعمال خير من الإهمال، ودفع أشد المفسدتين بأخفهما، والإتيان بأعظم المصلحتين وتفويت أدناهما، وتقديم المصلحة الراجحة على المفسدة الخفيفة،و عدم ترك المصلحة الغالبة خشية المفسدة النادرة... ضوابط المفهوم: ولمفهوم المفاضلة عدد من الضوابط هي: إلغاء التعارض: ان الأخذ بالمفهوم إنما يكون في حال التناقض بين الأفعال الذى عبر عنه الفقهاء بمصطلحات التزاحم والتعارض ، لان مضمون المفهوم كما سبق ذكره هو محاوله الجمع بين الأفعال المتعارضة (المتناقضة) على وجه يرفع التعارض(التناقض) بينها. معرفة مراتب الأعمال في الشرع: المفاضلة هي احد انماط الاجتهاد ، وبالتالي فهي ليست نشاط معرفي مطلق، بل نشاط معرفي محدود" مقيد" بقواعد موضوعية مطلقه مصدرها الوحي ،ام هذه القواعد مراتب الأعمال فى الشرع، يقول الإمام الذهبي (فضل الأعمال بعضها على بعض إنما هو التوقيف، وورد في ذلك أحاديث عدة.)( السير 11/419). معرفه الواقع: والمفاضلة كأحد انماط الاجتهاد ،إنما تهدف إلى حل المشاكل التي يطرحها الواقع المعين زمانا ومكانا، والاختيار بين الأفعال " الواقعية" التي تجلب المنافع وتدرأ المفاسد قدر الإمكان في الواقع ، لذا فان معرفه الواقع،والمشاكل التي يطرحها، والإمكانيات التي يتيحها،والسنن الالهيه الكلية والنوعية التي تضبط حركته، هي شرط اساسى للمفاضلة، وقد عبر الأصوليون عن معرفه الواقع " كشرط اساسى للاجتهاد" بمصطلح تحقيق المناط،الذى قال الشاطبي عنه انه لا خلاف بين الأمة في قبوله، ومعناه: أن يثبت الحكم بمدركه الشرعي لكن يبقى النظر في تعيين محله) (الموافقات 4/90)،يقول ابن القيم )ولا يتمكن المفتي ولا الحاكم من الفتوى والحكم بالحق إلا بنوعين من الفهم:أحدهما: فهم الواقع والفقه فيه، واستنباط علم حقيقة ما وقع بالقرائن والأمارات والعلامات حتى يحيط به علما.النوع الثاني: فهم الواجب في الواقع، وهو فهم حكم الله الذي حكم به في كتابه أو على لسان رسوله في هذا الواقع، ثم يطبق أحدهما على الآخر، فمن بذل جهده واستفرغ وسعه في ذلك، لم يعدم أجرين أو أجرا،فالعالم من يتوصل بمعرفة الواقع والتفقه فيه إلى معرفة حكم الله ورسوله( (إعلام الموقعين 1/87) . - للاطلاع على مقالات أخرى للدكتور صبري محمد خليل يمكن زيارة العنوان http://drsabrikhalil.wordpress.com) ).