أ. أحمد عاصي ـ حوار ملحق البعث الفكري ـ العدد/19/ تاريخ 5/4/2004
إن قضية بعث البعث وسبر أغوار الوحدة والحرية والاشتراكية والفكر القومي والمواجهة تختلف جذرياً في هذه المرحلة عن صياغات نظرية سابقة كانت خارج خضم وميدان التجربة، في حين أن الحزب يقف الآن على أرضية صالحة لبعثه، فلقد شهدت ساحته السورية متغيرات جمة في مستويات الوعي المجتمعي، وباتت قادرة على تلقي التجديد في مسائل الاقتصاد والحرية والديمقراطية والتنمية وتطورت فيها مفاهيم المواطنية والتعددية، وأيضاً باتت مفاهيم الحزب أقدر على رؤية المسائل والقضايا القومية في ضوء ثقافة المقاومة وحاجات الشارع العربي إلى الانفلات من قبضة السياسات القائمة إلى الحرية والديمقراطية والتعدد والتنوع.
في خضم النقاش الدائر حول البعث وبعث البعث ومع التسعير المتفاقم في استهدافات شتى للعرب في ماضيهم وحاضرهم ومستقبلهم، في حرب جديدة ومميزة من سلسلة حروب استتباع تاريخية للغرب ضد العرب، حيث تتسم هذه الحرب الحالية بوضوح شديد في أهدافها وشعاراتها وأساليبها ولايخجل منظّروها ومديروها من الاعلان صراحة عن أنفسهم وخلفياتهم الفكرية والعقائدية وعن أحادية نظرتهم للعالم والانسانية واستخفافهم بهذا العالم وقيمه ومصالحه.
في أجواء هذا التسعير المتفاقم الذي نلحظ مجموعة من مؤثراته تعتمل في أذهان عدد من المثقفين العرب ونخبهم وعلى الأخصّ في قراءاتهم ومحاكماتهم للفكر القومي ومستقبله، نجد أن الخوض في خضم هذا النقاش الدائر وقد بدأ يبرز على صفحات الجرائد وفي وسائل الاعلام، يجب أن يأخذ بعين الاعتبار أهمية المنهجية المعتمدة في القراءة والمحاكمة وأهمية منطلقاتها القيميَّة والأخلاقية وسلامة قواعدها وقواسمها المنطقية.
وتصويباً للمنطق ندخل من تحديدات أكثر وضوحاً لبعض المصطلحات القومية.
فالفكر القومي شيء والمفهوم القومي شيء آخر، والفكر القومي واحد والمفهوم القومي متعدد، الأول موضوعي عام والثاني مجتمعي خاص، وبالتالي فالأول مرجعي ثابت والثاني متحرك.
والفكر القومي ظاهرة مجتمعات الانسان، فلا مجتمعات، لاقومية، وبين الفكر القومي والأمة تاريخ ثقافة وثقافة مستقبل فهو محمول ثقافة أمة، يتماثل أو يتقاطع في النشأة والتكوين في مجتمعات العالم وله صفات دوام ولزوم وصراع وتفاعل. والفكر القومي يتمظهر في الأمة، في مستويين اثنين:
الأول: إيماني وعفوي متوارث أو متناقل عبر الأجيال، متراكم في العقل البديهي للناس.
الثاني: إيماني وعلمي (معرفي) متحرك للذات القومية ومعني بالحركة المجتمعية في الداخل والخارج.
والمفهوم القومي أحادي في مجتمع واحد، أرضيته موضوعات تمايز ومصالح، فالعربي ذو مفهوم قومي عربي والأمريكي ذو مفهوم قومي أمريكي والصيني أيضاً والروسي.. والمفهوم القومي مرتبط بالفعل القومي، والفعل إرادة وعي وتعصّب انتماء والتعصّب إيجابي أو سلبي في آن واحد، فعلاقات العالم علاقات مفاهيم قومية وأحداث التاريخ أحداث بين الأفعال القومية.
والمفهوم القومي نسبي في تمثّل الفكر القومي في ذات الأمة، والنسبية تعني قدرته في إدراك الأبعاد الكلية للفكر ومدى تمثلها في الداخل والخارج، فالمفهوم القومي الأمريكي مثلاً، وضع الفكر القومي بالمجمل في مصلحة المجتمع الأمريكي في الداخل والخارج، إذ ليس لدينا ما نتحدث فيه عن فكر أو فلسفة أو نظرية، تتجاوز خط المصلحة الأمريكية الأحمر، فالعلمي والأدبي والفني والتعليمي والتقني، والعلماني والديني، والانساني والعدواني، والأخلاقي واللا أخلاقي.. عناصر في الفكر القومي الأمريكي، معظمها في المفهوم القومي. ومقابل هذا مثلاً فالمفهوم القومي العربي سجل عجزاً في إدراك الفكر القومي وساهم في مجموعة أزمات وقضايا وهزائم ثم بدا أكثر إدراكاً واستدراكاً للفكر عبر قيام البعث التصحيحي، إذ كانت حرب تشرين ومجمل تطبيقات التصحيح القومي والقطري، أرضية جبهات من أفكار وبنادق تتنوع في حرم المفهوم، وبدا أكثر تمثيلاً للفكر في تلك الجبهة من نخب: اسلامية، علمانية، وتيارات شعبية وحزبية وفئوية ووطنية وقطرية.. وحتى طوائفية.. اجتمعت تحت شعارات المصلحة القومية في معركة قومية (المقاومة وثقافتها).
والفعل القومي (إرادة وعي الانتماء والتعصب له) أو مفاعيل المفهوم القومي تتباين ما بين المجتمعات تبعاً لإدارة أو تحريك المفهوم، فنرى في مجتمعات النظم الاستعمارية (أنظمة الرأسمالية) فعلاً هجومياً عدوانياً، ونراه في مجتمعات مستلبة دفاعياً إنسانياً.
وتزيد القدرة في تمثيل الأبعاد من قوته بهجوميته ودفاعياته (قوة الفعل الأمريكي في الهجوم والعدوان) قوة المقاومة اللبنانية في الداخل ودفاعها والتعاطف الإنساني العالمي معها التجربة الفيتنامية)، وضعف القدرة في التمثيل يقلّل أو ينفي تلك القوة، إذ يتحول مشروعاً للسلطة.
والتأثير على الفكر القومي أو إلغاؤه في مجتمعات مستهدفة أو مغزوة يقع في رأس مشاريع المستهدف والغازي إذ يطمح في تحويل الفكر وإنتاج مفاهيم قومية تتلاءم مع مشروعه (محاولات فرنسا في الجزائر، محاولات تركيا تتريك العرب، محاولات أمريكا اليوم في تبديل المناهج التعليمية العربية) أو في إلغاء الفكر، ولا يحصل هذا إلا في حالات القتل الكلي وإبادات للشعب المغزو (فعلت ذلك أمريكا بالسكان الأصليين، نوايا الصهيونية تجاه الفلسطينيين، حروب التطهير العرقي).
والمفهوم القومي بمفاعيله، متجدد بضمان الفكر القومي، فالتأثير على المفهوم (داخلي وخارجي) وارد وكذلك إلغاؤه ويتجدد بتنوع موضوعات الفكر وإبعاده ومنابته المجتمعية (تاريخ الفكر القومي العربي معروف بكثرة إلغاء وإسقاط المفاهيم بمعطيات داخلية وخارجية ولكن الفكر بقي حصيناً، المشاريع الاستعمارية منذ الحرب العالمية الأولى تفعل فعلها في الجغرافيا والاقتصاد والأمن في الوطن العربي ولم تستطع مطلقاً التأثير في عمق الفكر القومي وثقافة الوطن).
إن مسألة بعث البعث لا تقع خارج مضمون المصطلحات القومية، فالبعث نتاج تاريخي للفكر القومي العربي ويحمل مفهوماً قومياً أثبت قدرته في تمثيل نسبي إيجابي متطور أو متصاعد للأبعاد الفكرية، والمفهوم القومي للبعث واكب مجموع الحركة الفكرية العربية وهو الحركة القومية الأولى (ربما الوحيدة) لم تخرج من ساحات العمل العربي، من إدراك منقوص للبعد التاريخي أو من تأثيرات للخارج (أحزاب وقوى ونخب قومية خرجت من الساحة لعدم صلاحية مفاهيمها ومنها من انقلب على مفاهيمه لصالح مؤثرات أيديولوجية خارجية).
والمفهوم بمفاعيله وضع البعث في موقع المشروع السياسي القومي مما جعله الأقدر على إطلالات في العمق الجدلي للفكر القومي العربي بعناصره وتفاعله الإنساني، فالتجديد إذن (نقف قليلاً أمام لزوم كلمة أو مصطلح تجديد) هو خيار المفهوم أساساً وبعث البعث هو استمرار المفهوم و مفاعيله في ضوء متغيرات في مستويين للحركة المجتمعية العربية داخلياً وخارجياً (نتعرض لهذه المسألة لاحقاً في عرض موضوعات الوحدة والحرية والاشتراكية).
ولعل القصور أو التأخير الحزبي التنظيمي عن صياغات نظرية بات الإفراج عنها حاجة حزبية وقومية، لا يلغي قدرة الحزب على استدراك هذه الحاجة، خصوصاً وأن ضروراتها تترافق مع الدخول في عمق مرحلة مختلفة، وأن هذه الصياغات تأتي من تراكم مجموعة من المعطيات البالغة الأثر في المفهوم والمشروع القوميين ظهرت إيجابياتها الجمة قومياً وقطرياً وعالمياً مع ظهور قادة عظماء عبر مسارهم في الحركة التصحيحية واستمرارها (هي حركة حزبية).
فبعث البعث معني أكثر من أي وقت مضى بهذا الاستدراك وهو مستند إلى مجموعة المراكمات ومؤثراتها وإلى قدرات الفكر القومي والمفهوم القومي للبعث في الإلمام بحركة الحياة وتطوراتها والانخراط المتفاعل والفاعل فيها، ونرى أن أية مداخل إلى بعث البعث لاتضع في حسبانها تلك المستندات المنطقية، تترك الباب مفتوحاً أمام احتمالات شتى تتعلق بمصداقيتها وصلاحها، فبعث البعث يختلف عن بيروسترايكا بعثية تؤدي بالبعث إلى تلاوة فعل ندامة أمام تاريخه وجغرافية هذا التاريخ وهو أيضاً يختلف عن مجموعة استجابات براغماتية لضغوطات محلية أو عالمية استعمارية.
وان كنا نلاحظ بعض طروحات لمثقفين (حزبيين وغير حزبيين) ممن يقصرون أفكارهم في بعث البعث على قطرية المدخل على أمل أن تصب هذه الأفكار بطريقة وأخرى في خانة الحاجة القومية لها، فإننا نقف أمام طروحات أفكار يطلقها حزبيون وغير حزبيين في ساحات عربية وعالمية ونسجل حولها عدداً من الملاحظات المنهجية في محاكمة الفكر القومي ومنه إلى بعث البعث.
ومن هذه الملاحظات:
1 ـ محاولة حصر الفكر القومي عامة كنتاج لمرحلة متقدمة ومحددة من تطور المجتمعات الأوروبية، ولعل هذه المرحلة بدأت مع حاجة البرجوازيات الأوروبية إلى هذا الفكر مروراً بمجموعة الوحدات القومية الأوروبية حيث انتهت "بإسقاط الديكتاتوريات الفاشية والنازية بفضل المجتمع الأمريكي الذي لم يتخذ القومية شعاراً له، كما يذكر الدكتور حسين كنعان في مقالته في جريدة النهار اللبنانية بتاريخ 5/2/2004.
2 ـ اعتبار أن الفكر القومي العربي لا يعدو كونه إلا من مؤثرات هذه المرحلة على بعض المثقفين العرب، إذ يقول الوزير عبد الله الأمين في عدد الجريدة ذاته: "إن الفكر القومي العربي ما هو إلا ترجمة للنهوض القومي في أوروبا، ومعظم المفكرين العرب الذين أسسوا أحزاباً كانت ثقافتهم أوروبية وتحديداً فرنسية، سواء حزب البعث أو الحزب السوري القومي الاجتماعي..".
3 ـ محاولات إفراغ الفكر القومي عامة والعربي منه من أي مضمون إنساني، فالدول في مقالة الدكتور كنعان "لم تعد قادرة على إقناع شعوبها بالذهاب إلى الحرب لأسباب قومية منزلة من السماء.. وجنوب لبنان تحرر بدون فكر قومي.. البعث جاء بفكر قومي غير خدماتي وهو يطرح فكرة تحقيق الوحدة بأي ثمن على طريقة غاريبالدي.."، ومحاولات إيجاد بدائل للفكر القومي بتبني أفكار ونظريات لا قومية في إخراجها العالمي ولكنها مغرقة في قوميتها بخلفياتها وبسياسات تسويقها، ومنها ما ينظِّر له الدكتور في محاكماته للفكر القومي والبعث (نظرية كارل دويتش في التكامل الاجتماعي على قاعدة التقاربين "الجغرافي والمعيشي" ونظرية الانترديبندانس "الاعتماد المتبادل" الأمريكية حول اندماج الكيانات اقتصادياً وسياسياً مع الحفاظ على الخصوصيات).
وعلامات هذه النظريات الفارقة هي في الديمقراطية وحقوق الإنسان مع الإيحاء أو التأكيد أن للفكر القومي عداء مع هذه المسائل الإنسانية.
4 ـ اللعب مع التاريخ العربي وممازحته بشأن مكوناته وثقافته ومنتجاتها جميعاً ومنها البعث، فبالإضافة لمحاولة الإيهام بقطع تاريخي من خلال ربط الفكر القومي العربي كترجمة للنهوض الأوروبي، وبالتالي ربط نشأة البعث وتأسيسه بهذه الترجمة، نرى الوزير الأمين يستغرق أكثر في تلك الممازحة، لا بل يدخل على موضوعة البعث وبعث البعث (من بوابة الدولة العربية المركزية التي لم تنشأ يوماً) ويضيف ربطاً بأنه تبين أن الدولة التي تغنى بها البعث "الأموية والعباسية والأندلس" هي دولة إسلامية ويشير إلى تناقض ما يعتمل في أفكار البعث وسياساته ما بين الديني الإسلامي والعلماني السياسي.
5 ـ محاولات إعدام الفكر القومي العربي بالحكم عليه ببعض التجارب الفاشلة (الثورة العربية الكبرى، وحدة 1958، حرب 1967) أو تحميله مسؤولية أنظمة وحركات لم يحملها أساساً (النظام العراقي) واعتبار أن هذه التجارب هي حصـة هذا الفكر وعليه بعد استيفائها أن ينزوي أو يرحل عن العرب في الوقت الذي يبدو فيه الحديث عن تجارب قومية ناجحة (تجربة الحركة التصحيحية¬ تجربة المقاومة وثقافتها¬ التلاحم اللبناني السوري¬ نموذج العلاقات السورية الإقليمية والدولية) تطفلاً، وفي الوقت الذي تجرَّد الأحزاب والحركات القومية من حقوقها في المدى الحيوي لاكتمال بناها ونضج أفكارها وسياساتها عبر مراحل تتعرض خلالها لتساقطات وانشقاقات وتحولات (المراحل والممارسة التي يتكامل عبرها المفهوم القومي).
إننا إذ نطرح وجهة نظر في بعث البعث وفق التحديدات المنطقية الموضحة للمصطلحات القومية، فهو من المنطقي أيضاً أن نلقي ضوءاً على مجموعة الملاحظات الواردة حول الأنشطة الثقافية المعنية بالفكر القومي والبعث، ومنها مقالتان لمعالي الوزير عبد الله الأمين والدكتور حسين كنعان، منشورتان في جريدة النهار اللبنانية بتاريخ 5/2/2004 تحت عنوان: "ماذا بعد سقوط حزب البعث في العراق؟..".
نبدأ مع الوزير ومن موقع الرفاقية، فهو رمز من رموز البعث، مستغربين قليلاً مدخله إلى النص، فهو بعد الاستغراقة القليلة يدخل من بوابة الدولة العربية المركزية التي لم تنشأ يوماً.. ومنه إلى اختصار أو ابتسار نشأة البعث وتأسيسه حزباً كنتاج ثقافي انفعالي صدموي للنفس العربية المثقفة.
وحسب الوزير فلقد أودت الصدمة المزدوجة السبب (الكذب البريطاني على العرب والصدق البريطاني مع اليهود) إلى محض انفعال ازموي تمثل لدى بعض المثقفين في أن يجدوا عزاءً في أفكار وحركات النهوض القومي في أوروبا وبنكهته ولونه الفرنسي.. وانعكس ذلك في مبادراتهم إلى تأسيس حركات وأحزاب قومية تحمل أفكاراً وأساليب مترجمة، وحاولت أن تتصدّر مكانات في العواصم العربية الملتهبة وكان منها البعث والقومية السورية ولربما الناصرية وامتداداتها.
ويمتد الحديث نحيباً بتأثيرات اللبس الذي شربكنا به البعث وجعلنا نغنّـي للدولتين الاسلاميتين الأموية والعباسية ظناً منا بأننا نغنّـي للدولة العربية في الوقت الذي أوقعنا فيه في تناقض وحيرة بين الديني الإسلامي والعلماني السياسي.. ومع سياق العرض يشير الرفيق إلى ما يشبه الصفقة التي أدخلت الاشتراكية كنتاج لدمج البعث العربي والعربي الاشتراكي (حزب المرحوم أكرم الحوراني) وكأن البعث العربي قبل الحوراني لم يكن اشتراكياً ولم يكن للمؤسسين كتابات حول الاشتراكية ولم يكن التيار القومي الاشتراكي في المؤتمر القومي التأسيسي الأول في 7 نيسان 1947 هو التيار الأقوى (من مؤثرات النهوض الأوروبي في فترة الاربعينيات ما كان يسمى الاشتراكية الطوباوية ومن رموزها سان سيمون ودي فورييه) ونلفت هنا إلى أن العبارة المشهورة التي ذكرها الرفيق عن عفلق في المؤتمر 1963 السادس القومي "إن البعث ليس بعثي" هي تعبير حي عن خلاف عفلق باشتراكيته الطوباوية مع المؤتمر الذي كان يتوجه باتجاه الاشتراكية العلمية (على قواعد ماركسية) وباتجاهات موازية فكرية وتنظيمية في محاولات جادة لتلمس مداخل تطبيقات عملية لحزب قومي تسلم السلطة في سورية وهو معني جداً بالمسألة القومية في مرحلة من تسعير الصراع العالمي ما بين أمريكا والاتحاد السوفييتي لذلك أصبح مفهوم الوحدة بالتماثل والحرية، بالتحرر من الاستعمار والهيمنة والاشتراكية على قواعد موضوعة الصراع الطبقي والحزب الطليعي بينما أصبحت صيغة الحزب التنظيمية محكومة بمبدأ الديمقراطية المركزية..
ويتركنا الرفيق أمام علامات الاستفهام حول محطات رئيسية في تاريخ الحزب خلال عرضه للأحداث الحزبية، فهل الوحدة بالتماثل كانت في مقابل الوحدة السورية ¬المصرية؟.. وهل ان هذه الوحدة هي نتاج لعقلية الحزب الليبرالية في الخمسينيات أو متطابقة معها؟.. هل المطلوب أن يفهم القارىء أن إخفاق ما يسمى الثورة العربية الكبرى ووحدة 1958 ربطاً بـ "عن أية وحدة عربية يتحدث البعث وبسقوط أحلام الوحدة والارتداد إلى الكيانية" أصاب من المسألة القومية مقتلاً ولا قيامة لها في المستقبل؟...
ألم يؤسس المؤتمر القومي السادس لبدايات تحوّل في مسار بياني للحزب بدأ حملة تهذيب واسعة النطاق للمفهوم القومي ومسألة الوحدة عشية قيام الحركة التصحيحية وهو اليوم يبدو أكثر تهذيباً واستجابة لطبيعة الأمور؟.. هل تنحصر الايجابية الوحيدة عبر ثلاثين سنة من عمر الحزب بالحركة التصحيحية في محاولة وحيدة للرئيس الأسد لإجراء تغييرات في مسار العملية الداخلية في سورية؟.. ألم تقدَّم أجوبة عملية وميدانية على كل المسائل العالقة من خلال تطبيقات الحركة التصحيحية أو على الأقل وضعت أسساً واقعية مدعومة بالتجربة الحية لصياغتها على الصعيدين القومي والقطري صياغة منهجية ثابتة بالنص الستراتيجي ومتغيرة تطويراً بالمعطيات المراحلية؟.. وهل يستطيع العرب وأقليات الوطن العربي المصالحة مع أنفسهم بغير المفهوم القومي؟.. ألم تكن تجربة لبنان وسورية دفعاً باتجاه الموضوع القومي وثقافة المقاومة مدخلاً لإعادة صوغ وحدة الناس؟.
إذ نعتقد أن مؤثرات ما، غربية ليبرالية وشرقية اشتراكية لامست مفاهيم الحزب وسياساته في فترتي الخمسينيات والستينيات دون أن تدخل في العمق التكوني الحقيقي للحزب ومبررات قيامه فإنها مع الحركة التصحيحية ومع الاستقرار الفكري والسياسي الناتج من هذه الحركة نستطيع التأكيد بثقة أن البعث تلمس خطه البياني الحقيقي والطبيعي منسجماً ببعدها التاريخي والمستقبلي المراحلي والستراتيجي. وهنا نقترب من محاكمة المدخل أو المداخل التي ولجها الرفيق.
إن موضوعة الدولة العربية المركزية التي لم تنشأ يوماً يفتح الباب أمام احتمالين يترتبان على سياق طروحات النص الصحفي مع الإشارة إلى ملحوظ حول بعض الفوارق في مفهوم الدولة المركزية والدولة غير المركزية وحول الدولة كيفما كانت، فإقرار الرفيق بوجود دولة ما أو دولتين كانت إسلاميتين وتغنينا بهما، وربطاً بما ذكره حول بعث البعث للمفاهيم الإسلامية من الناحية الفكرية يلغي تماماً ما ورد حول كون البعث ترجمة للنهوض القومي الأوروبي باعتبار أن باعث المفاهيم الإسلامية بنشأته وتأسيسه يمتلك مستنداً من تاريخه وهو وجود دولة أو دول إسلامية على أقل تقدير.
إن الأمة العربية أو الوطن العربي في فكر حافظ الأسد وبشار الأسد هو "حقيقة تاريخية مطلقة"، ومن ذلك فالفكر القومي العربي هو كينونة وعي متحركة بتحرك وتراكم معطيات هذه الحقيقة وبشقي التراكم الداخلي والخارجي (الداخلي تفاعلي والخارجي تأثيري وتبادلي) وقد أعلنت الأمة مظاهر كينونتها في بواكير التاريخ.
ولما كان الاسلام عقيدة دينية انسانية عالمية (للناس جميعاً) وموجهة لهم بواسطة العرب، فمن الطبيعي أن يسلك الإسلام مساره الى باقي الأمم فيدخل أيضاً في كينوناتها الفكرية دون المساس بعناصر تكوناتها القومية فالأمم: العربية والفارسية والهندية والآسيوية والافريقية وبعض الأوروبية.. تحمل مواصفات وربما تشريعات العقيدة الاسلامية ولكنها أمم قومية وتتصرف داخلياً وخارجياً على وقع مصالحها القومية.
إن الفكر القومي (ومنه العربي) لم يكن نتاج مرحلة اقتضت فيها حاجات الأنظمة الرأسمالية الغربية إليه وهو لم ينته بانتهاء الديكتاتوريات الفاشية والنازية، والحربان العالميتان الأولى والثانية الأوروبيتان كانتا في وجهٍ ما حروب القوميات الأوروبية للسيطرة والتمرد، وزوال الفاشية والنازية لم يعنِ زوال القوميات المنتصرة والمهزومة في أوروبا والتي عادت ووقع بعضها تحت قبضة المنتصرين الأكبرين الولايات المتحدة وروسيا ستالين وحالياً يعني لجوء الأوروبيين إلى الاتحاد الأوروبي من جملة ما يعنيه التضامن القومي في وجه الاكتساح الأمريكي العولمي للعالم ومنه الأوروبي، فالدوافع القومية لاتخلو من أي فكر وهي ملازمة لحركة المجتمعات لأنها ترتبط بالأرضية الأولى التي يقف عليها الإنسان والمجتمع وتتلون بألوان مختلفة وتسلك مسالك فكرية وثقافية متنوعة، فالايطاليون لمسوا مصلحتهم في وحدة إيطاليا في خطابية غاريبا لدي الملتهبة وهم ذاتهم حملوا سلاح الفاشية وهم أيضاً يسعون اليوم لحماية وطنهم وقوميتهم بالاتحاد الأوروبي. في أمريكا يطلق كلينتون صيحاته في المحافل بالانترديبندانس (التواقف) العالمي الذي يسمح للآخرين بالحفاظ على خصوصياتهم وهو "كلينتون" يحتفظ لنفسه كأمريكي بخصوصيته في الهيمنة والسيطرة ومصادرة ثروات العالم، ويطلب من الآخرين أن يحافظوا على خصوصياتهم في الاستهلاك والتنازل عن الثروة للشركات الأمريكية (ومنها ميريل لنش التي أوردها الدكتور) وإذا رفض الآخر هذه المعادلة غير المتكافئة يقتحمه الانترديبندانس من على ظهور الدبابات ومتون الصواريخ.. والدكتور يتساءل: لاأحد يعرف لماذا ذهب الأمريكيون إلى العراق؟. ونحن نسأل: كيف أقنعوا شعبهم بهذا الذهاب؟ .. ألم يكن للمشاعرالقومية الملتهبة بفعل شعار تهديد الأمن القومي الأمريكي بالإرهاب وأسلحة الدمار أي دور؟.
لقد أطلق كارل دويتش أفكاراً في التكامل الاجتماعي.. وأطلق حزب البعث (القائد الخالد والقائد بشار الأسد) أفكار التضامن والسوق المشتركة والأمن العربي.. ويقول الرئيس: إن أفكار دويتش لا قومية وأفكار البعث قومية وغير خدماتية.
حزب البعث واجه حرب 1967 وكان في السلطة ودخل حرب 1973 وهو في السلطة ولم يبدل أفكاره القومية. حزب البعث تبنى مسألة المقاومة في سنة 1963 (المؤتمر السادس) وبعد تجارب بدأ هذا الشعار يعطي أكله على أثر احتلال لبنان، وهو الآن مكرّس (ثقافة المقاومة) في العمق النفسي الثقافي العربي قاطبة.
وبعث البعث لايفترض بحال من الأحوال إخراج البعث من تاريخه واللعب على مبررات وجوده ولعن المراحل التي تطور بها. ونحن مدعوون الى مشاركة حزبية في هذا البعث، والمثقفون العرب مدعوون أيضاً وخاصة اللبنانيون أبناء تجربة المقاومة وثقافتها والوحدة الوطنية والتلاحم مع سورية.
[b]