محمد عابد الجابري
لم يختلف وضع الهوية العربية كثيرا على عهد الخلافة العثمانية عنه زمن العباسيين. فالهوية الجامعة على مستوى الإمبراطورية بقيت هي الثقافة العربية الإسلامية التي لم يتغير وضعها كثيرا بعد سقوط الدولة العباسية. نعم، لقد افتقد العثمانيون "النسب" العربي الذي كان يستمد منه الخليفة العباسي بعض شرعيته، كما أنهم احتفظوا بلغتهم فلم يتعربوا، لا على مستوى أجهزة الدولة ولا مستوى الثقافة، وبالمقابل لم يحاولوا فرض لغتهم على الشعوب العربية. لقد كانوا يستمدون شرعيتهم من رماحهم: لا الرماح الموجهة إلى الممالك الإسلامية التي كان يتشكل منهما ما عرف بـ"دار الإسلام"، بل الرماح المتجهة صوب "الكفار" في أوربا. وقد نجح الأتراك العثمانيون في تثبيت شرعية إمبراطوريتهم من خلال استئناف "الفتح الإسلامي" في ذلك الاتجاه، خصوصا بعد تمكنهم من القسطنطينية (عاصمة الإمبراطورية البيزنطية) سنة 1453، بعد أن كانت قد استعصت على الأمويين والعباسيين. وهذا ما منحهم في نظر فقهاء الإسلام مكانة خاصة.
وبما أن الأتراك العثمانيين لم يكونوا يحملون معهم موروثا إسلاميا خاصا، وبما أنهم كانوا يجهلون اللغة العربية، فقد وقع في عهدهم نوع من الانفصال -ولا أقول القطيعة- بين طرفي الزوج الإيديولوجي الذي "سيولد" في أواخر عصرهم: أقصد زوج "العروبة والإسلام". لقد كان الخليفة العباسي يستند في شرعيته القومية إلى كونه عربي النسب، وفي شرعيته الدينية إلى كونه من سلالة العباس بن عبد المطلب جد النبي محمد عليه السلام. أما في العهد العثماني فقد استحدثت مؤسسة دينية خاصة هي "مؤسسة شيخ الإسلام"، أقول "مؤسسة" لأن لقب "شيخ الإسلام" قد ظهر من قبلهم وناله كبار علماء الدين ولكن دون أن يكون له أي دور مؤسسي في الدولة، وإنما هو لقب معنوي يعبر عن اعتراف العامة وكثير من الخاصة بكون حامله متبحر في علوم الدين. أما في الإمبراطورية العثمانية فقد كان منصب "شيخ الإسلام" أحد الأركان الأساسية في نظام الحكم المكون من السلطان (الخليفة) والصدر الأعظم (الوزير الأول) ، وشيخ الإسلام (المشرف على الأوقاف والقضاء والتعليم وصاحب النفوذ الواسع الذي قد يمتد إلى عزل السلطان)، ثم قاضي العسكر والدفتردار (ناظر المالية) الخ. هذا على مستوى رئاسة الدولة (أو"الباب العالي نسبة إلى مقرها في اسطنبول)، أما على المستوى الاجتماعي/الثقافي فقد اعتمدت هذه الإمبراطورية نظام الولايات والأقليات والملل (غير المسلمين).
لم تكن هناك في الإمبراطورية العثمانية هوية جامعة بالمعنى الذي عرفته الإمبراطورية العباسية. وإذا كان الإسلام هو القاسم المشترك الأكبر، وباسمه كانت "الفتوحات في دار الحرب" (القارة الأوربية) وكان "الحكم والتحكم في دار ألإسلام"، فإن نظام الولايات والأقليات والملل قد جعل "الهويات الخاصة"، قومية كانت أو طائفية أو دينية "ملية"، هي التي تحدد شخصية الأفراد والجماعات. كانت الإمبراطورية العثمانية أشبه بخيمة: ضيقة في القمة واسعة عريضة في القاعدة، خيمة يشدها عماد في الوسط، هو السلطان وممثلوه في الولايات، وأوتاد في الأطراف تربطها بأرض الإمبراطورية، مع فجوات تختلف ضيقا واتساعا.
بقي الحال كذلك –تقريبا طوال الخلافة العثمانية- إلى أن قام عصر القوميات في أوربا... حينذاك أخذ الجوار مع أوربا، وداخل القارة الأوربية نفسها، يفعل فعله في ذلك العالم متعدد الجنسيات والقوميات والطوائف والأديان. لقد أخذ شكل جديد من الشعور بـ"الهوية الأقوامية" ينتشر في أحشاء خيمة "الباب العالي": شعور الأتراك بقوميتهم الطورانية، وشعور عرب المشرق بوقوعهم خارج هذه القومية، وبالتالي خارج دولتها الخ... أما بلدان المغرب، وإلى حد ما مصر، فقد بقيت علاقاتها، في الجملة، سواء مع دار الخلافة في بغداد أو في الأستانة (اسطنبول) كما كانت من قبل، علاقة انفصال مع نوع من الاتصال...
والواقع أن الحضارة العربية الإسلامية لم تشهد التغاير أو التمايز أو الانشطار داخل "الهوية العربية الإسلامية" إلا عندما تأثرت النخبة العصرية في تركيا، خلال القرن التاسع عشر بالحركات القومية في أوروبا، وقام فيها تيار ينادي بتسويد القومية التركية الطورانية على مختلف القوميات المنضوية تحت الخلافة العثمانية، فكان رد فعل النخبة العصرية العربية في سورية ولبنان (وخاصة المسيحية منها)، أن طرحت شعار المطالبة بالاستقلال عن الترك، الشيء الذي يعني الخروج عن الخلافة العثمانية التي كانت تمثل الإسلام السياسي الموروث. من هنا ظهرت فكرة العروبة والقومية العربية (في بلاد الشام خاصة) لا كطرف ينازع الإسلام أو ينافسه بل كتعبير سياسي عن الرغبة في التحرر من هيمنة القومية التركية الطورانية التي كانت تطمح إلى الاستئثار بالسلطة.
وتزامن انتصار دول أوربية في الحرب العالمية الأولى (1914-1918) التي كان الصراع على المستعمرات من أهم أسبابها، تزامن مع دخول الإمبراطورية العثمانية وضعية "الرجل المريض" -وكانت في الصف المنهزم في تلك الحرب- وانتهى أمرها باستيلاء أتاتورك على السلطة في تركيا، فألغى الخلافة وأقام دولة علمانية في أوائل العشرينات، وبذلك تحول مجرى الأحداث، وأصبح "الآخر" لـ"العرب" ابتداء من الثلاثينات من القرن العشرين هو الاستعمار الأوروبي الذي أدى التنافس بين أقطابه إلى تكريس نوع جديد من التقسيم والتجزئة داخل العالم العربي؛ وقد اكتست التجزئة مظهرا مأساويا في المشرق بصفة خاصة (في بلاد الشام، والعراق والجزيرة).
من هنا أخذت الهوية العربية تتحدَّد، ليس فقط برفض الاستعمار الأوربي فحسب بل أيضا بالتنديد بالتجزئة التي فرضها أو كرسها وبعدم الاعتراف بـ "إسرائيل" التي غرسها في فلسطين، ثم بالابتعاد عن الأحلاف العسكرية التي تنشئها القوى الاستعمارية الإمبريالية وفي مقدمتها حلف بغداد CENTO الذي أنشأته بريطانيا عام 1955، ومن ورائها الولايات المتحدة الأمريكية. وكان ذلك الحلف يضم ثلاث دول إسلامية كبرى هي باكستان وإيران وتركيا، ودولة عربية واحدة هي العراق، وذلك في إطار إستراتيجية الحزام العسكري الذي كانت تقيمه الولايات المتحدة والدول الغربية ضد الاتحاد السوفيتي"...
هكذا وقع الفصل مرة أخرى بين القومية العربية و"الإسلام السياسي" الذي كان يضم هذه المرة حكومات (باكستان وإيران وعراق نوري السعيد ...) فضلت مهادنة الدول الاستعمارية والسير في صف الليبرالية الإمبريالية ضدا على الاتحاد السوفيتي والكتلة الشيوعية من جهة، وابتعادا عن حركات التحرير في العالم الثالث وضمنه العالم العربي من جهة أخرى. وهكذا وقف بعض تلك الحكومات موقفا سلبا من القضية العربية، قضية فلسطين وقضية التحرر العربي عامة. وفي خضم هذا الصراع ظهر منظرون وإيديولوجيون حاولوا، تحت ضغط هذه الملابسات، وربما بدوافع أخرى أيضا، التنظير للقومية العربية مع السكوت عن الإسلام واستبعاده صراحة أو ضمنا. فكان من الطبيعي أن يقوم رد فعل مضاد يعتبر "الإسلام" كمقوم أساسي وأولي للهوية وليس "العروبة"